الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - أ - الدّين في اللّغة: يقال دان الرّجل يدين ديناً من المداينة. ويقال: داينت فلاناً إذا عاملته ديناً، إمّا أخذاً أو عطاءً. من أدنت: أقرضت وأعطيت ديناً. ب - معنى الدّين في اصطلاح الفقهاء: 2 - قيل في معناه أقوال متعدّدة أوضحها ما قاله ابن نجيمٍ: " الدّين لزوم حقٍّ في الذّمّة ". فيشمل المال والحقوق غير الماليّة كصلاةٍ فائتةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وغير ذلك، كما يشمل ما ثبت بسبب قرضٍ أو بيعٍ أو إجارةٍ أو إتلافٍ أو جنايةٍ أو غير ذلك.
أ - العين: 3 - يطلق الفقهاء في اصطلاحهم كلمة " العين " في مقابل " الدّين " باعتبار أنّ الدّين هو ما يثبت في الذّمّة من غير أن يكون معيّناً مشخّصاً، سواء أكان نقداً أم غيره. أمّا العين " فهي الشّيء المعيّن المشخّص، كبيتٍ ". ب - الكالئ: 4 - الكالئ في اللّغة معناه المؤخّر. وقد جاء في الحديث «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ». والمراد به عند الفقهاء بيع النّسيئة بالنّسيئة، أو الدّين المؤخّر بالدّين المؤخّر. ج - القرض: 5 - القرض عقد مخصوص يرد على دفع مالٍ مثليٍّ لآخر ليردّ مثله. ويطلق عليه أحياناً اسم " دين " فيقال: دان فلان يدين ديناً: استقرض. ودنت الرّجل: أقرضته. والقرض أخصّ من الدّين.
6 - عرّف الحنفيّة الدّين بأنّه عبارة عن " ما يثبت في الذّمّة من مالٍ في معاوضةٍ، أو إتلافٍ، أو قرضٍ " وهو عند جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة عبارة عن " ما يثبت في الذّمّة من مالٍ بسببٍ يقتضي ثبوته ". وهذا الخلاف في حقيقة الدّين - بالنّظر إلى سبب الوجوب في الذّمّة - ليس له أثر على قضيّة: أيّ الأموال يصحّ أن تثبت ديناً في الذّمّة، وأيّها لا تقبل ذلك ؟ وبيان ذلك أنّ المال ينقسم عند جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " إلى قسمين: أعيانٍ ومنافع.
أ - أمّا المثليّ: 7 - فلا خلاف بين الفقهاء في صحّة أن يكون ديناً في الذّمّة، ومن هنا جاز إقراضه والسّلم فيه باتّفاق الفقهاء. فإذا وجب شيء منه في الذّمّة، كانت المطالبة به متعلّقةً بعينٍ موصوفةٍ غير مشخّصةٍ، وكلّ عينٍ تتحقّق فيها تلك الصّفات المعيّنة يصحّ للمدين أن يقضي بها دينه، وليس للدّائن أن يمتنع عن قبولها. ب - وأمّا القيميّ: فله حالتان: 8 - الأولى: أن يكون ممّا يضبط بالوصف. ولا خلاف بين الفقهاء في صحّة أن يكون ديناً في الذّمّة. وقد نصّ على ذلك الحنفيّة في الاستصناع والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في القرض والسّلم. وجاء في " المهذّب " للشّيرازيّ: " يجوز قرض كلّ مالٍ يملك بالبيع ويضبط بالوصف، لأنّه عقد تمليكٍ يثبت العوض فيه في الذّمّة، فجاز فيما يملك ويضبط بالوصف كالسّلم ". وقال: " ويجوز السّلم في كلّ مالٍ يجوز بيعه وتضبط صفاته كالأثمان والحبوب والثّمار والثّياب ". 9- والحالة الثّانية للقيميّ: أن يكون ممّا لا يضبط بالصّفة، كالجواهر من لؤلؤٍ وعقيقٍ وفيروز ونحوها ممّا تختلف آحاده وتتفاوت أفراده ولا يقبل الانضباط بالأوصاف. وفي هذه الحالة اختلف الفقهاء في صحّة كون هذا المال ديناً في الذّمّة على قولين: أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ، وهو أنّه لا يصحّ جعله ديناً في الذّمّة، لأنّه لو صحّ انشغال ذمّة الملتزم بذلك المال لكان غير متعيّنٍ، ولوجب عندئذٍ أن تفرغ الذّمّة ويوفّى الالتزام بأداء أيّ فردٍ كان من أمثاله، ولا مثل له. وعلى هذا شرطوا في صحّة القرض والسّلم والاستصناع أن يكون المال الثّابت في الذّمّة منضبطاً بالصّفة بالقوّة والفعل، لأنّ ما لا تنضبط صفاته تختلف آحاده كثيراً، وذلك يؤدّي في الغالب إلى المنازعة والخصومة عند الوفاء، وعدمها مطلوب شرعاً. وقد استثنى مالك والحنفيّة من هذا الأصل دين المهر، فأجازوا أن يكون قيميّاً معلوم الجنس، وإن كان مجهول الصّفة، وجعل مالك لها الوسط ممّا سمّي إن وقع النّكاح على هذا النّحو. وقال الحنفيّة: للزّوج الخيار في أداء الوسط منه أو قيمته. وعلّلوا ذلك بأنّ الجهالة فيه لا تضرّ، إذ المال غير مقصودٍ في الزّواج، فيتسامح فيه بما لا يتسامح به في عقود المعاوضات الماليّة الأخرى، لأنّ المعاوضات تبنى على المشاحّة والمكايسة، فكان الجهل بأوصاف العوض فيها مخلّاً بالمقصود منها، بخلاف النّكاح فإنّه مبنيّ على المكارمة والمساهلة، وليس المقصود من الصّداق أن يكون عوضاً مماثلاً، ولذلك سمّاه الشّارع نحلةً فهو كالهبة، وعلى ذلك لا يضرّ الجهل به كما لا يضرّ بالهبة. والقول الثّاني: للشّافعيّة، وهو غير الأصحّ، أنّه يصحّ كونه ديناً في الذّمّة إذا كان معلوم القدر. وفيما يكون به الوفاء في هذه الحالة وجهان: أحدهما: أنّه يتحقّق بأداء القيمة الماليّة، كما لو أتلف لشخصٍ عينًا ماليّةً قيميّةً، فإنّه يلزمه قيمتها. قال الشّيرازيّ: " لأنّ ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل، ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات ". والوجه الثّاني: أنّه يتحقّق بردّ مثله من حيث الصّورة والخلقة مع التّغاضي عن التّفاوت اليسير في القيمة.
10 - فإنّ جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ذهبوا إلى أنّ المنافع تعتبر أموالاً بحدّ ذاتها، وأنّها تحاز بحيازة أصولها ومصادرها، وهي الأعيان المنتفع بها، ولهذا جازت المعاوضة عنها بالمال في الإجارة بشتّى صورها. كما ذهبوا إلى أنّ المنافع تعتبر صالحةً لأن تثبت ديناً في الذّمّة إذا كانت مثليّةً أو قابلةً لأن تضبط بالوصف، كما هو الشّأن في الأعيان ولا فرق، وسواء، أكانت منافع أعيانٍ أم منافع أشخاصٍ. وعلى هذا نصّوا في باب الإجارة على جواز التّعاقد على منفعةٍ موصوفةٍ في الذّمّة غير معيّنةٍ بالذّات، وسمّوها " إجارة الذّمّة " نظراً لتعلّق المنفعة المعقود عليها بذمّة المؤجّر، لا بأشياء معيّنةٍ. كما إذا استأجر شخص دابّةً موصوفةً لتحمله من مكان إلى مكان، فإنّ المنفعة المستحقّة بالعقد تثبت ديناً في ذمّة المؤجّر أو المكاري، وعليه أن يحمله من مكانه إلى المكان المطلوب على أيّة دابّةٍ يحضرها إليه. ولهذا لا ينفسخ العقد إذا هلكت الدّابّة الّتي عيّنها المؤجّر أو استحقّت، بل يرجع المستأجر عليه فيطالبه بغيرها، لأنّ المعقود عليه غير معيّنٍ، بل متعلّق في الذّمّة، وعلى المؤجّر الوفاء بتلك المنفعة بأيّة دابّةٍ أخرى يحضرها له. وقد اعتبر المالكيّة والشّافعيّة " إجارة الذّمّة " سلماً في المنافع، ولهذا اشترطوا في صحّتها تعجيل الأجرة كما هو الشّأن في السّلم، سواء عقدت بلفظ الإجارة أو السّلم أو غير ذلك. ووافقهم على ذلك الشّرط الحنابلة إذا عقدت بلفظ السّلم، أمّا إذا عقدت بغيره، فلم يشترطوا تعجيل الأجرة. أمّا الحنفيّة، فقد ذهبوا إلى أنّ المنافع لا تعتبر أموالاً، لأنّ المال عندهم هو: " ما يميل إليه طبع الإنسان، ويمكن ادّخاره لوقت الحاجة ". والمنافع غير قابلةٍ للإحراز والادّخار، إذ هي أعراض تحدث شيئاً فشيئاً، وآناً فآناً، وتنتهي بانتهاء وقتها وما يحدث منها غير ما ينتهي... وبناءً على عدم اعتبارهم المنافع أموالاً، وقصرهم الدّين على المال، فإنّ المنافع لا تقبل الثّبوت في الذّمّة دينًا وفق قواعد مذهبهم، ومن أجل ذلك لم يجيزوا في باب الإجارة أن يرد العقد على منفعةٍ موصوفةٍ في الذّمّة، وشرطوا لصحّة عقد الإجارة كون المؤجّر معيَّناً.
11 - تقدّم أنّ الدّين في اصطلاح الفقهاء، هو " ما وجب من مالٍ في الذّمّة... " وعلى ذلك فإنّه يكون تعلّقه بذمّة المدين، ولا يتعلّق بشيءٍ من أمواله، سواء أكانت مملوكةً له عند ثبوت الدّين أم ملكها بعد ذلك، وتكون جميع أمواله صالحةً لوفاء أيّ دينٍ ثبت عليه، ولا يكون الدّين مانعاً له من التّصرّف في أمواله بأيّ نوعٍ من أنواع التّصرّفات. هذا هو الأصل في جميع الدّيون، ولكن لهذه القاعدة استثناءات، حيث إنّ بعض الدّيون تتعلّق بأعيان المدين الماليّة تأكيداً لحقّ الدّائن وتوثيقاً له، ومن ذلك: 12 - أ - الدّين الّذي استوثق له صاحبه برهنٍ، فإنّه يتعلّق بالعين المرهونة.. وعلى ذلك فلا يكون لصاحبها أن يتصرّف فيها إلاّ بإذن المرتهن، ويقدّم حقّ المرتهن في استيفاء دينه منها على من عداه من الدّائنين، ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك. (ر: رهن، تركة، إفلاس). 13 - ب - الدّين الّذي حجر على المدين بسببه، فإنّه يتعلّق بأمواله باتّفاق العلماء، لأنّ حجر المفلس يعني " خلع الرّجل من ماله لغرمائه "، ولأنّه لو لم يكن حقّ الغرماء متعلّقاً بماله لما كان في الحجر عليه فائدة " ولأنّه يباع ماله في ديونهم، فكانت حقوقهم متعلّقةً به كالرّهن ". ولا يخفى أنّ الدّين هاهنا إنّما يتعلّق بماليّة الأعيان المملوكة بذواتها، بمعنى أنّ المدين ليس له أن يتصرّف تصرّفاً ينقص من قيمتها الماليّة، فليس له أن يتبرّع بشيءٍ منها، ولا أن يعاوض عليها بغبنٍ يلحقه، لما في ذلك من الإضرار بحقوق الدّائنين... وتصحّ فيه المبادلات الماليّة الّتي لا غبن عليه فيها ; لأنّها إذا أخرجت من ملكه شيئاً، فقد أدخلت فيه ما يعادله، فبقيت قيمة الأموال ثابتةً... 14 - ج - حقوق الدّائنين والورثة في مال المريض مرض الموت، حيث إنّها تتعلّق فيه بمال المريض بعد أن كانت متعلّقةً بذمّته في حال الصّحّة. وعلّة ذلك أنّ مرض الموت مرحلة تتهيّأ فيها شخصيّة الإنسان وأهليّته للزّوال، كما أنّه مقدّمة لثبوت الحقوق في أموال المريض لمن ستنتقل إليهم هذه الأموال بعد موته من دائنين وورثةٍ. فينتج عن ذلك أن تصبح الدّيون متعلّقةً بمال المريض بعد أن كانت متعلّقةً بذمّته قبل المرض، لأنّ الذّمّة تضعف بالمرض لعجز صاحبها عن السّعي والاكتساب، فيتحوّل التّعلّق من ذمّته - مع بقائها - إلى ماله توثيقًا للدّين، وتتقيّد تصرّفاته بما لا يضرّ بحقوق الدّائنين. كما ينشأ عن ذلك تعلّق حقّ الورثة بماله ليخلص لهم بعد وفاته تملّك الثّلثين ممّا يبقى بعد سداد الدّيون إن كانت هناك ديون، فتتقيّد تصرّفاته أيضاً بما لا يضرّ بحقوق الورثة. أمّا الثّلث فقد جعله الشّارع حقّاً للمريض ينفقه فيما يرى من سبل الخير ونحوها، سواء بالتّبرّع المنجز حال المرض، أو بالوصيّة، أو غير ذلك. 15 - على أنّ هناك فرقًا بين تعلّق حقّ الدّائنين وتعلّق حقّ الورثة بمال المريض، وهذا الفرق يئول إلى أمرين: أحدهما: أنّ حقّ الدّائنين يتعلّق بمال المريض معنىً لا صورةً، أي أنّه لا يتعلّق بذات الأشياء الّتي يملكها، وإنّما يتعلّق بمقدار ما فيها من ماليّةٍ، لأنّ الغرض من تعلّق حقّهم بماله هو التّمكّن من استيفاء ديونهم. أمّا تعلّق حقّ الورثة بمال المريض فقد اختلف الفقهاء فيه هل يتعلّق بماليّته أم بعينه ؟ على قولين: - فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن أبي يعلى وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن إلى أنّه كحقّ الغرماء يتعلّق بمال المريض معنىً لا صورةً، فيصحّ بيع المريض بمثل القيمة للأجنبيّ وللوارث، لأنّه ليس في تصرّفه إبطال لحقّ الورثة في شيءٍ ممّا يتعلّق به حقّهم وهو الماليّة، فكان الوارث والأجنبيّ في ذلك سواءً. وذهب أبو حنيفة وأبو الخطّاب من الحنابلة إلى أنّه يتعلّق تارةً بالصّورة والمعنى، وتارةً أخرى بالمعنى دون الصّورة، فإذا كان تصرّف المريض مع غير وارثٍ كان تعلّق حقّ الورثة بالماليّة، فيصحّ بيعه للأجنبيّ بمثل القيمة لا بأقلّ. وإذا كان تصرّفه مع وارثٍ كان حقّهم متعلّقاً بالعين والماليّة، فليس للمريض أن يؤثر أحداً من ورثته بعينٍ من ماله ولو بالبيع له بمثل القيمة، إذ الإيثار كما يكون بالتّبرّع بغير عوضٍ، يكون بأن يخصّه بأعيانٍ يختارها له من ماله، ولو كان البدل مثل قيمتها. والفرق الثّاني بين تعلّق حقّ الدّائنين بمال المريض وبين تعلّق حقّ الورثة أنّ حقّ الدّائنين في التّعلّق بمال المريض مقدّم على حقّ الورثة، لأنّ وفاء الدّين مقدّم على توزيع الميراث، فيتعلّق حقّ الدّائنين بجميع ماله إن كانت ديونهم مستغرقةً، في حين لا يتعلّق حقّ الورثة بأكثر من ثلثي التّركة بعد وفاء الدّيون، لأنّ للمريض حقّ التّصرّف في ثلث ماله بطريق التّبرّع، سواء أكان منجزاً أم مضافاً إلى ما بعد الموت، ويأخذ تبرّعه هذا حكم الوصيّة. 16 - د - ما ينفق في سبيل تسديد الدّيون المحيطة بأموال المدين المحجور عليه عند بيع أمواله للوفاء بديونه، كأجرة المنادي والكيّال والحمّال ونحوها من المؤن، فإنّها تتعلّق بأموال المدين، ويقدّم الوفاء بها على سائر الدّيون المطلقة. 17 - هـ - دين مشتري المتاع الّذي باعه الحاكم من أموال المدين المفلس إذا ظهر مستحقّاً وتلف الثّمن المقبوض، فإنّه يتعلّق بمال المدين، ويقدّم بدل الثّمن الّذي دفعه على باقي الغرماء، ولا يضارب به معهم لئلاّ يرغب النّاس عن شراء مال المفلس. 18 - و - الدّين الّذي يستحقّه الصّانع كصائغٍ ونسّاجٍ وخيّاطٍ أجرةً على عمله إذا أفلس صاحبه، والعين بيد الصّانع، فإنّه يتعلّق بما في يده من متاعه، ويقدّم به على سائر الغرماء. جاء في " المدوّنة ": إذا أفلس الرّجل وله حليّ عند صائغٍ قد صاغه له، كان هو أولى بأجره، ولم يحاصّه الغرماء، بمنزلة الرّهن في يديه ". " وكلّ ذي صنعةٍ مثل الخيّاط والصّبّاغ والصّائغ وما أشبههم منهم، أحقّ بما في أيديهم من الغرماء في الموت والتّفليس جميعاً، وكلّ من تكوري على حمل متاعٍ فحمله إلى بلدٍ من البلدان، فالمكري أحقّ بما في يديه من الغرماء في الموت والتّفليس جميعاً. 19 - ز - دين الكراء الّذي يستحقّه صاحب الأرض المؤجّرة إذا أفلس المستأجر بعدما زرعها، فإنّه يتعلّق بالزّرع، ويقدّم به على سائر غرماء المستأجر. قال التّسوّليّ: " لأنّ الزّرع كرهنٍ بيده في كرائها، فيباع ويؤخذ الكراء من ثمنه ". وكذا " كلّ من استؤجر في زرعٍ أو نخلٍ أو أصلٍ يسقيه، فسقاه ثمّ فلّس صاحبه، فساقيه أولى به من الغرماء حتّى يستوفي حقّه ". 20 - ح - الدّين الواجب على من توفّي وترك مالاً، فإنّه يتعلّق بتركته كتعلّق الدّين بالمرهون. وقد أثبت الشّارع هذا التّعلّق لمصلحة الميّت كي تبرأ ذمّته " فاللّائق به ألاّ يسلّط الوارث عليه ". 21 - ط - الدّين الّذي يكون للمستأجر الّذي عجّل الأجرة وتسلّم العين المؤجّرة، إذا فسخت الإجارة قبل انتهاء مدّتها لموت المؤجّر، فإنّ ما يقابل المدّة الباقية من الأجرة يكون ديناً متعلّقاً بالعين المؤجّرة، فإذا بيعت الدّيون على مالكها المتوفّى كان دين المستأجر مقدّماً على ديون سائر الغرماء، وهذا على مذهب الحنفيّة القائلين بانفساخ الإجارة بموت أحد العاقدين. قال ابن عابدين: " فإنّه إذا أعطى الأجرة أوّلاً ثمّ مات الآجر صارت الدّار هنا بالأجرة ".
22 - الأصل براءة ذمّة الإنسان من كلّ دينٍ أو التزامٍ أو مسئوليّةٍ ما لم يوجد سبب ينشئ ذلك ويلزم به، ومن هنا كان لا بدّ لثبوت أيّ دينٍ من سببٍ موجبٍ يقتضيه... والباحث في كتب الفقه يجد أنّ أسباب وجوب الدّين عديدة متنوّعة، غير أنّه يمكن حصرها في تسعة أسبابٍ: 23 - أحدها: الالتزام بالمال: سواء أكان في عقدٍ يتمّ بين طرفين كالبيع، والسّلم، والقرض، والإجارة، والزّواج، والطّلاق على مالٍ، والحوالة، والكفالة بالمال، والاستصناع ونحوها، أو كان في التزامٍ فرديٍّ يتمّ بإرادةٍ واحدةٍ كنذر المال عند جميع الفقهاء، والتزام المعروف عند المالكيّة. ففي القرض مثلاً يلتزم المقترض أن يردّ للمقرض مبلغاً من النّقود، أو قدراً من أموالٍ مثليّةٍ يكون قد اقترضها منه، وثبتت ديناً في ذمّته. على أنّ جميع الدّيون الّتي تثبت في عقود المعاوضات الماليّة لا تستقرّ في الذّمّة بعد لزومها إلاّ بقبض البدل المقابل لها، إذ به يحصل الأمن من فسخ العقد بسبب تعذّر تسليمه إلاّ ديناً واحداً، وهو دين السّلم، فإنّه وإن كان لازماً، فهو غير مستقرٍّ، لاحتمال طروء انقطاع المسلم فيه، ممّا يؤدّي إلى انفساخ العقد وسقوط الدّين. وتعليل ذلك أنّ استقرار الدّين في أيّ عقدٍ من عقود المعاوضات إنّما يعني الأمن من فسخ العقد بسبب تعذّر حصول الدّين المذكور، لعدم وجود جنسه وامتناع الاعتياض عنه.. وذلك مخصوص بدين السّلم دون بقيّة الدّيون، لجواز الاعتياض عنها عند انقطاع جنسها. 24 - والثّاني: العمل غير المشروع المقتضي لثبوت دينٍ على الفاعل: كالقتل الموجب للدّية والجنايات الموجبة للأرش، وإتلاف مال الغير، وكتعدّي يد الأمانة أو تفريطها في المحافظة على ما بحوزته من أموالٍ، كتعمّد الأجير الخاصّ إتلاف الأعيان الموجودة تحت يده أو إهماله في حفظها. ويعدّ من هذا القبيل ما لو " أتلف على شخصٍ وثيقةً تتضمّن دينًا له على إنسانٍ، ولزم من إتلافها ضياع ذلك الدّين، فيلزمه الدّين ". 25 - والثّالث: هلاك المال في يد الحائز إذا كانت يد ضمانٍ، مهما كان سبب الهلاك، كتلف المغصوب في يد الغاصب وهلاك المتاع في يد الأجير المشترك أو القابض على سوم الشّراء ونحو ذلك. 26 - والرّابع: تحقّق ما جعله الشّارع مناطاً لثبوت حقٍّ ماليٍّ: كحولان الحول على النّصاب في الزّكاة، واحتباس المرأة في نفقة الزّوجيّة، وحاجة القريب في نفقة الأقارب، ونحو ذلك. فإذا وجد سبب من ذلك وجب الدّين في ذمّة من قضى الشّارع بإلزامه به. 27 - والخامس: إيجاب الإمام لبعض التّكاليف الماليّة على القادرين عليها للوفاء بالمصالح العامّة للأمّة إذا عجز بيت المال عن الوفاء بها، أو للمساهمة في إغاثة المنكوبين، وإعانة المتضرّرين بزلزالٍ مدمّرٍ، أو حريقٍ شاملٍ، أو حربٍ مهلكةٍ، ونحو ذلك ممّا يفجأ النّاس ولا يتّسع بيت المال لتحمّله أو التّعويض عنه. لكن لا يجوز هذا إلاّ بشروطٍ: الشّرط الأوّل: أن تتعيّن الحاجة. فلو كان في بيت المال ما يقوم به لم يجز أن يفرض عليهم شيء. الشّرط الثّاني: أن يتصرّف فيه بالعدل. ولا يجوز أن يستأثر به دون المسلمين، ولا أن ينفقه في سرفٍ، ولا أن يعطي من لا يستحقّ، ولا يعطي أحداً أكثر ممّا يستحقّ. الشّرط الثّالث: أن يصرف مصرفه بحسب المصلحة والحاجة لا بحسب الغرض. الشّرط الرّابع: أن يكون الغرم على من كان قادراً من غير ضررٍ ولا إجحافٍ، ومن لا شيء له، أو له شيء قليل فلا يغرم شيئاً. الشّرط الخامس: أن يتفقّد هذا في كلّ وقتٍ، فربّما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادةٍ على ما في بيت المال، فلا يوزّع. وكما يتعيّن المال في التّوزيع، فكذلك إذا تعيّنت الضّرورة للمعونة بالأبدان ولم يكف المال، فإنّ النّاس يجبرون على التّعاون على الأمر الدّاعي للمعونة بشرط القدرة وتعيّن المصلحة والافتقار إلى ذلك. 28 - السّبب السّادس من أسباب ثبوت الدّين: أداء ما يظنّ أنّه واجب عليه، ثمّ يتبيّن براءة ذمّته منه: كمن دفع إلى شخصٍ مالاً يظنّه ديناً واجباً عليه، وليس بدينٍ واجبٍ في الحقيقة ونفس الأمر، فله أن يرجع على القابض بما أخذه منه بغير حقٍّ، ويكون ذلك ديناً في ذمّته، وذلك لأنّ من أخذ من غيره ما لا حقّ له فيه، فيجب عليه ردّه إليه. وقد نصت / م 207 / من مرشد الحيران " من دفع شيئاً ظانّاً أنّه واجب عليه، فتبيّن عدم وجوبه، فله الرّجوع به على من قبضه منه بغير حقٍّ ". 29 - والسّابع: أداء واجبٍ ماليٍّ يلزم الغير عنه بناءً على طلبه: كما إذا أمر شخص غيره بأداء دينه، فأدّاه المأمور من ماله عنه، فإنّ ما دفعه يكون ديناً في ذمّة الآمر للمأمور، يرجع عليه به، سواء شرط الآمر رجوعه - بأن قال له: أدّ ديني على أن أؤدّيه لك بعد - أو لم يشرط ذلك، بأن قال له: أدّ ديني - فقط - فأدّاه. ومثل ذلك ما لو أمر شخص آخر بشراء شيءٍ له، أو ببناء دارٍ، أو دكّانٍ، أو غير ذلك، ففعل المأمور ذلك، فإنّه يرجع على الآمر بما دفعه، سواء اشترط عليه الرّجوع أو لم يشترط. وكذا لو أمر شخص آخر بأن يكفله بالمال فكفله، ثمّ أدّى الكفيل ما كفل به، فإنّه يرجع على المكفول بما أدّى عنه. وكذا إذا أحال مدين دائنه على شخصٍ غير مدينٍ للمحيل، فرضي المحال عليه، وأدّى عنه الدّين المحال به بناءً على طلبه، فإنّ المحال عليه يرجع على المحيل بما أدّى عنه. 30 - والثّامن: الفعل المشروع حالة الضّرورة إذا ترتّب عليه إتلاف مال الغير: كمن أكل طعام غيره بدون إذنه مضطرّاً لدفع الهلاك عن نفسه، فإنّ ترخيص الشّارع وإباحته استهلاك مال الغير بدون إذنه لداعي الضّرورة لا يسقط عن الفاعل المسئوليّة الماليّة، ولا يعفيه من ثبوت مثل ما أتلفه، أو قيمته ديناً في ذمّته لمالكه، فالأعذار الشّرعيّة لا تنافي عصمة المحلّ، والإباحة للاضطرار لا تنافي الضّمان، ولأنّ إذن الشّارع العامّ بالتّصرّف إنّما ينفي الإثم والمؤاخذة بالعقاب، ولا يعفي من تحمّل تبعة الإتلاف، بخلاف إذن المالك، وللقاعدة الفقهيّة الكلّيّة " الاضطرار لا يبطل حقّ الغير " / م 33 / من المجلّة العدليّة، وبهذا قال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في المشهور عندهم، وغيرهم. وخالف في ذلك بعض المالكيّة فقالوا: لا ضمان عليه في هذه الحالة، لأنّ دفع الهلاك عنه كان واجباً على المالك، والواجب لا يؤخذ له عوض. وهناك رأي ثالث عند المالكيّة، وهو أنّ المضطرّ إلى طعام الغير لدفع الهلاك عن نفسه إنّما يضمن قيمته لصاحبه إن كانت معه - أي بأن كان معه مال حاضر - وإلاّ فلا شيء عليه لوجوب بذل ربّه له. 31 - والتّاسع: القيام بعملٍ نافعٍ للغير بدون إذنه: وهو نوعان: النّوع الأوّل: أن يأتي بعملٍ يلزم الغير أو يحتاجه بدون إذنه، كمن أنفق عن غيره نفقةً واجبةً عليه، أو قضى عنه ديناً ثابتاً في ذمّته، ولم ينو المنفق بذلك التّبرّع، فإنّ ما دفعه يكون ديناً في ذمّة المنفق عنه. وعلى ذلك نصّ المالكيّة والحنابلة. خلافاً للشّافعيّة والحنفيّة. فقد جاء في مرشد الحيران / م 205 /: " إذا قضى أحد دين غيره بلا أمره سقط الدّين عن المديون، سواء أقبل أم لم يقبل، ويكون الدّافع متبرّعاً لا رجوع له على المديون بشيءٍ ممّا دفعه بلا أمره، ولا رجوع له على ربّ الدّين القابض لاسترداد ما دفعه إليه ". وحجّتهم على ذلك: أنّ من أدّى عن غيره واجباً عليه من دينٍ أو نفقةٍ على قريبٍ أو زوجةٍ من غير إذنه، فهو إمّا فضوليّ، وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوّته على نفسه، أو متفضّل فعوضه على اللّه دون من تفضّل عليه، فلا يستحقّ مطالبته. 32 - وقد ذكر عليّ حيدر في كتابه: " درر الحكّام شرح مجلّة الأحكام " قاعدة الحنفيّة في هذا النّوع وهي: " أنّ من أدّى مصروفاً عائداً على غيره بدون أمره أو إذن الحاكم يكون متبرّعاً ". وحكى لهذه القاعدة فروعاً كثيرةً منها: أ - إذا وفّى شخص دين آخر بدون أمره يكون متبرّعاً. ب - إذا دفع الرّاهن أو المرتهن من تلقاء نفسه مصروفاً على الرّهن يلزم الآخر بدون أمره أو إذن الحاكم يعتبر متبرّعاً، ولا يحقّ له المطالبة به، لأنّه ليس مضطرّاً لهذا الإنفاق طالما أنّه مقتدر على استحصال أمرٍ من الحاكم به لتأمين حقّه بالرّجوع على المستفيد بما أدّى عنه. وعلى ذلك نصّت المجلّة العدليّة في / م 725 /. ج - إذا أدّى المستأجر المصاريف اللّازمة على المؤجّر بلا أمره يكون متبرّعاً / م 529 / من المجلّة العدليّة. وإذا أعطى المستأجر الحيوان المأجورعلفاً بدون أمر المؤجّر يكون متبرّعاً. د - إذا كفل شخص دين آخر بدون أمره يكون متبرّعاً. هـ - إذا صرف المودع على الوديعة بلا أمر صاحبها أو إذن الحاكم يعدّ متبرّعاً. و -إذا عمّر الشّريك الملك المشترك من تلقاء نفسه بدون إذن الشّريك أو الحاكم يعدّ متبرّعاً. ز - لو أنشأ أحد داراً أو عمّرها لصاحبها بدون أمره كان البناء أو العمارة لصاحب العرصة أو الدّار، ويكون المنشئ متبرّعاً فيما أنفقه. ح - لو أنفق شخص على عرس آخر بلا إذنه كان متبرّعاً. 33 - والنّوع الثّاني من القيام بعملٍ نافعٍ للغير: أن يقوم بعملٍ يحتاجه لمصلحة نفسه ولا يتوصّل إليه إلاّ بإسداء نفعٍ لغيره يحتاجه ولم يأذن له فيه. كما إذا أعار شخص لآخر عيناً ليرهنها بدينٍ عليه، ولمّا أراد المعير استردادها لم يتمكّن من ذلك إلاّ بقضاء دين المرتهن ففعل، فإنّه يرجع على المستعير بالدّين. وبهذا قال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وعليه نصّت مجلّة الأحكام العدليّة في (م 732) منها.
34 - ينقسم الدّين باعتبار التّعلّق إلى قسمين: أ - دينٍ مطلقٍ: وهو الدّين المرسل المتعلّق بالذّمّة وحدها. ب - دين موثّق: وهو الدّين المتعلّق بعينٍ ماليّةٍ لتكون وثيقةً لجانب الاستيفاء كدين الرّهن ونحوه. وثمرة هذا التّقسيم تئول إلى أمرين: أحدهما: تقديم حقّ صاحب الدّين الموثّق في استيفاء دينه من العين الّتي تعلّق حقّه بها على سائر الدّائنين في حال حياة المدين باتّفاق الفقهاء. والثّاني: تقديم الدّيون الموثّقة المتعلّقة بأعيان التّركة في حال وفاة المدين على تجهيزه عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة. " إيثاراً للأهمّ، كما تقدّم تلك الحقوق على حقّه في الحياة ". أمّا الدّيون المرسلة في الذّمّة فيقدّم التّجهيز عليها. قال ابن عابدين: " فإذا رهن شيئاً وسلّمه، ولم يترك غيره، فدين المرتهن مقدّم على التّجهيز، فإن فضل بعده شيء صرف إليه ". وإنّما قدّمت الدّيون الموثّقة على التّجهيز لتعلّقها بالمال قبل صيرورته تركةً، " والأصل أنّ كلّ حقٍّ يقدّم في الحياة يقدّم في الوفاة ". وخالف في ذلك الحنابلة وقالوا بتقديم حقّ الميّت في تجهيزه من تركته على حقوق الدّائنين، ولو كانت ديونهم متعلّقةً بأعيان التّركة " كما يقدّم المفلس بنفقته على غرمائه، ولأنّ لباس المفلس مقدّم على قضاء ديونه، فكذلك كفن الميّت، ولأنّ سترته واجبة في الحياة، فكذلك بعد الموت ". 35 - وينقسم الدّين باعتبار قوّته وضعفه إلى قسمين: أ - دين الصّحّة: وهو الدّين الّذي شغلت به ذمّة الإنسان حال صحّته، سواء ثبت بإقراره فيها أم بالبيّنة، ويلحق به في الحكم الدّين الّذي لزمه وهو في مرض الموت، وكان ثبوته بالبيّنة. ب - دين المرض: وهو الدّين الّذي لزم الإنسان بإقراره وهو في مرض الموت، ولم يكن طريق لثبوته غير ذلك. وقد اتّفق الفقهاء على استواء دين الصّحّة ودين المرض في الاستيفاء من التّركة إذا كان في التّركة سعة لهما. 36 - أمّا إذا كانت التّركة لا تفي بكليهما، فقد اختلف الفقهاء في تقديم دين الصّحّة على دين المرض في الاستيفاء من التّركة على قولين: أحدهما: للمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ وابن أبي ليلى والتّميميّ من الحنابلة: وهو أنّ ديون الصّحّة تستوي مع ديون المرض في الاستيفاء من التّركة،وتقسم بينهم على قدر حصصهم. واستدلّوا على ذلك بعموم قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. حيث لم يفضّل أحد الدّينين على الآخر، فوجب أن يتساويا في الاستيفاء، ولأنّهما حقّان يجب قضاؤهما من رأس المال لاستوائهما في سبب الوجوب وفي محلّه. - أمّا السّبب: فهو الإقرار الصّادر عن عقلٍ ودينٍ، من شأن العقل والدّين أن يمنعا من قاما به عن الكذب في الإخبار، إذ الإقرار إخبار عن الواجب في ذمّة المقرّ، وهذا المعنى لا يختلف بين الصّحّة والمرض، بل في حالة المرض يزداد رجحان جهة الصّدق، لأنّ المرض سبب التّورّع عن المعاصي والإنابة عمّا جرى في الماضي، لكونه آخر عهده بالدّنيا، وأوّل عهده بالآخرة، فيكون خوف المقرّ أكثر، كما يكون أبعد عن الكذب، فإذا لم يكن الإقرار في حالة المرض أولى، فلا أقلّ من أن يكون مساوياً. - وأمّا المحلّ: فهو الذّمّة، إذ هي محلّ الوجوب في الصّحّة والمرض ولا فرق. فلمّا استويا في سبب الوجوب ومحلّه لزم أن يستويا في الاستيفاء. والثّاني: للحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في غير الأصحّ: هو أنّ ديون الصّحّة وما في حكمها مقدّمة على ديون المرض، وإذا لم تف التّركة بديون الصّحّة قسمت بين دائني الصّحّة بالحصص. وكذلك الحال إذا لم تكن ديون صحّةٍ، وكانت هناك ديون مرضٍ، وضاقت عنها التّركة، فإنّها تقسم بين الدّائنين بالحصص، ومثل ذلك في الحكم ما لو وفّيت ديون، ولم يف ما بقي من التّركة بديون المرض كلّها. ودليلهم على تقديم ديون الصّحّة على ديون المرض أنّ الحقوق إذا اجتمعت في مال الميّت يقدّم الأقوى، كالدّين يقدّم على الوصيّة، والوصيّة تقدّم على الميراث، ودين الصّحّة هنا أقوى، لأنّه ظهر بإقراره في وقتٍ لم يتعلّق بماله حقّ أصلاً، ولم يرد عليه نوع حجرٍ، ولهذا صحّ عتقه وهبته من جميع المال، بخلاف دين المرض الّذي ثبت في حالٍ تعلّق بأمواله دين صحّته، وصارت هذه الأموال محلًّا للوفاء به، وضماناً له، وورد عليه فيه نوع حجرٍ، ألا ترى أنّ تبرّعاته لا تنفذ إلاّ من الثّلث، فكان الأقوى أولى. وسبب إلحاق الدّيون الّتي لزمته في حال مرضه بالبيّنة بديون الصّحّة في الحكم هو انتفاء التّهمة في ثبوتها، إذ الثّابت بالبيّنة لا مردّ له، فيقدّم على المقرّ به في حال المرض. 37 - وينقسم الدّين باعتبار الدّائن إلى قسمين: أ - دين اللّه: وهو كلّ دينٍ ليس له من العباد من يطالب به على أنّه حقّ له، وهو نوعان: نوع يظهر فيه وجه العبادة والتّقرّب إلى اللّه تعالى، وهو ما لا مقابل له من المنافع الدّنيويّة، كصدقة الفطر، وفدية الصّيام، وديون النّذور، والكفّارات ونحو ذلك، فإنّها عبادات يؤدّيها المسلم امتثالاً لأمر اللّه تعالى وتقرّباً إليه. - ونوع يفرض لتمكين الدّولة من القيام بأعباء المصالح العامّة للأمّة، وهو ما يقابل - في الغالب - بمنفعةٍ دنيويّةٍ للمكلّف، كخمس الغنائم، وما أفاء اللّه على المؤمنين من أعدائهم من غير قتالٍ، وما يفرضه الإمام على القادرين من أفراد الأمّة للوفاء بالمصالح الّتي يعجز بيت المال عن الوفاء بها. وتفصيل ذلك في مصطلح: (دين اللّه). ب - ودين العبد: وهو كلّ دينٍ له من العباد من يطالب به على أنّه حقّ له، كثمن مبيعٍ، وأجرة دارٍ، وبدل قرضٍ وإتلافٍ، وأرش جنايةٍ، ونحو ذلك. ولصاحب هذا الدّين أن يطالب به المدين، وأن يرفع أمره إلى القاضي إذا امتنع عن الأداء ليجبره عليه بالطّرق المشروعة. (ر: حبس، حجر). 38 - وينقسم الدّين باعتبار السّقوط وعدمه إلى قسمين: صحيحٍ وغير صحيحٍ. أ - فالدّين الصّحيح: هو الدّين الثّابت الّذي لا يسقط إلاّ بالأداء أو الإبراء، كدين القرض ودين المهر، ودين الاستهلاك ونحوها. ب - والدّين غير الصّحيح: هو الدّين الّذي يسقط بالأداء أو الإبراء وبغيرهما من الأسباب المقتضية سقوطه، مثل دين بدل الكتابة، فإنّه يسقط بعجز العبد المكاتب عن أدائه. 39 - وينقسم الدّين باعتبار الشّركة فيه إلى قسمين: مشتركٍ وغير مشتركٍ. أ - فالدّين المشترك: هو ما كان سببه متّحداً، سواء أكان ثمن مبيعٍ مشتركٍ بين اثنين أو أكثر، بيع صفقةٍ واحدةٍ ولم يذكر عند البيع مقدار ثمن حصّة كلّ واحدٍ من الشّركاء، أم دينًا آيلاً بالإرث إلى عدّة ورثةٍ، أم قيمة مالٍ مستهلكٍ مشتركٍ، أم بدل قرضٍ مستقرضٍ من مالٍ مشتركٍ بين اثنين أو أكثر. ب - الدّين غير المشترك: هو ما كان سببه مختلفاً لا متّحداً، كأن أقرض اثنان كلّ منهما على حدته، مبلغاً لشخصٍ، أو باعاه مالاً مشتركاً بينهما، وسمّى حين البيع كلّ واحدٍ منهما لنصيبه ثمناً على حدته. 40 - وتبرز ثمرة هذا التّقسيم في المسائل التّالية: أوّلاً: إذا كانت الدّيون المطلوبة من المدين غير مشتركةٍ، فلكلّ واحدٍ من أربابها استيفاء دينه على حدةٍ من المدين، وما يقبضه يحسب من دينه خاصّةً، لا يشاركه فيه أحد من الدّائنين الأخر. أمّا إذا كان الدّين المطلوب من المدين مشتركاً بين اثنين أو أكثر، فلكلّ واحدٍ من الشّركاء أن يطلب حصّته منه، ولا يختصّ القابض منهم بما قبضه، بل يكون مشتركًا بين الشّركاء، لكلّ واحدٍ منهم حقّ فيه بقدر حصّته. ثانياً: إذا قبض أحد الشّريكين حصّته من الدّين المشترك وأخرجها من يده بوجهٍ من الوجوه كهبةٍ، وقضاء دينٍ عليه، أو استهلكها فلشريكه أن يضمّنه حصّته منها. فلو كان مبلغ ألف دينارٍ دينًا مشتركاً بين اثنين مناصفةً، فقبض أحدهما من المدين خمسمائةٍ واستهلكها، فللدّائن الآخر أن يضمّنه مائتين وخمسين. أمّا الخمسمائة الأخرى فتبقى بين الاثنين مشتركةً. ثالثاً: إذا قبض أحد الشّريكين حصّته من الدّين المشترك، وتلفت في يده بدون تعدٍّ منه ولا تقصيرٍ، فلا يضمن حصّة شريكه في المقبوض، ولكنّه يكون مستوفياً حصّة نفسه، وما بقي من الدّين في ذمّة المدين فيكون حقّاً للشّريك الآخر. رابعاً: إذا أخذ أحد الدّائنين - ديناً مشتركاً - كفيلاً بحصّته من الدّين المشترك، أو أحاله المدين على آخر، فلشريكه الآخر أن يشاركه في المبلغ الّذي يأخذه من الكفيل أو المحال عليه. 41 - وينقسم الدّين باعتبار وقت أدائه إلى قسمين: حالٍّ ومؤجّلٍ. أ - فالدّين الحالّ: هو ما يجب أداؤه عند طلب الدّائن، فتجوز المطالبة بأدائه على الفور، والمخاصمة فيه باتّفاقٍ. ويقال له " الدّين المعجّل " أيضاً. ب - والدّين المؤجّل: هو ما لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل. لكن لو أدّى قبله يصحّ، ويسقط عن ذمّة المدين. وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى أنّ من الدّيون ما لا يكون إلاّ حالّاً، بحيث لا يصحّ تأجيله، فإن تأجّل فسد العقد. مثل رأس مال السّلم (ر: السّلم) والبدلين في الصّرف (ر: الصّرف) باتّفاق الفقهاء، ورأس مال المضاربة عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة (ر: مضاربة) والأجرة في إجارة الذّمّة عند المالكيّة والشّافعيّة (ر: إجارة) ومصطلح: (أجل). 42 - التّوثيق في اللّغة معناه الإحكام. ومن هنا سمّي العهد ميثاقاً وموثقاً لما فيه من الإحكام والثّبوت. أمّا في الاصطلاح الفقهيّ: فذكر إلكيا الهرّاسيّ في كتابه: " أحكام القرآن " أنّ الوثيقة هي " ما يزداد بها الدّين وكادةً ". وبتتبّع استعمال الفقهاء لمصطلح: " توثيق الدّين " نجد أنّهم يطلقونه على أمرين: أحدهما: تقوية وتأكيد حقّ الدّائن فيما يكون له في ذمّة المدين من مالٍ بشيءٍ يعتمد عليه - كالكتابة والشّهادة - لمنع المدين من الإنكار، وتذكيره عند النّسيان، وللحيلولة دون ادّعائه أقلّ من الدّين، أو ادّعاء الدّائن أكثر منه، أو حلوله أو انقضاء الأجل ونحو ذلك، بحيث إذا حصل نزاع أو خلاف بين المتداينين، فيعتبر هذا التّوثيق وسيلةً يحتجّ بها لإثبات الدّين المتنازع فيه أمام القضاء. والأمر الثّاني: تثبيت حقّ الدّائن فيما يكون له في ذمّة المدين من مالٍ وإحكامه، بحيث يتمكّن عند امتناع المدين عن الوفاء - لأيّ سببٍ من الأسباب - من استيفاء دينه من شخصٍ ثالثٍ يكفل المدين بماله،أو من عينٍ ماليّةٍ يتعلّق بها حقّ الدّائن وتكون رهينةً بدينه.
اتّفق الفقهاء على أنّ طرق توثيق الدّين أربعة: أ - توثيق الدّين بالكتابة: 43 - دلّت آية الدّين وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...} إلى آخر الآية على مشروعيّة توثيق الدّين بالكتابة المبيّنة له، المعربة عنه، المعرّفة للحاكم بما يحكم عند التّرافع إليه، وذلك في صكٍّ موضّحٍ للدّين بجميع صفاته. غير أنّ الفقهاء اختلفوا في حجّيّة الكتابة في توثيق الدّين على قولين: أ - فذهب الجمهور " الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة " إلى صحّة توثيق الدّين بالكتابة، وأنّها بيّنة معتبرة في الإثبات إذا كانت صحيحة النّسبة إلى كاتبها. ب - وذهب مالك والشّافعيّ وأحمد في روايةٍ عنه وجماعة من الفقهاء إلى أنّه لا يعتمد على الخطّ المجرّد إذا لم يشهد عليه، لأنّ الخطوط تشتبه والتّزوير فيها ممكن، وقد تكتب للتّجربة أو اللّهو.. ومع قيام هذه الاحتمالات والشّبهات لا يبقى للخطّ المجرّد حجّيّة، ولا يصلح للاعتماد عليه وحده. أمّا إذا أشهد عليه فيعتبر وثيقةً وحجّةً، لأنّ الشّهادة ترفع الشّكّ وتزيل الاحتمال.
44 - أوّلاً: إذا أمر شخص آخر بأن يكتب إقراره، فيكون هذا الأمر إقراراً حكماً. جاء في " الدّرّ المختار ": " الأمر بكتابة الإقرار إقرار حكماً، فإنّه كما يكون باللّسان يكون بالبنان، فلو قال للصّكّاك: اكتب خطّ إقراري بألفٍ عليّ، أو اكتب بيع داري، أو طلاق امرأتي صحّ ". 45 - ثانياً: إنّ قيود التّجّار - كالصّرّاف والبيّاع والسّمسار - الّتي تكون في دفاترهم المعتدّ بها، وتبيّن ما عليهم من ديونٍ تعتبر حجّةً عليهم، ولو لم تكن في شكل صكٍّ أو سندٍ رسميٍّ، وذلك لأنّ العادة جرت أنّ التّاجر يكتب دينه ومطلوبه في دفتره صيانةً له من النّسيان، ولا يكتبه للّهو واللّعب. أمّا ما يكتب فيها من ديونٍ لهم على النّاس فلا يعتبر وثيقةً وحجّةً، ويحتاج في إثباتها إلى وجهٍ آخر. 46 - ثالثاً: السّندات والوصولات الرّسميّة تعتبر حججاً معتمدةً في توثيق الدّين وإثباته. جاء في فتاوى قارئ الهداية: " إذا كتب على وجه الصّكوك يلزمه المال، وهو أن يكتب: يقول فلان الفلانيّ إنّ في ذمّتي لفلانٍ الفلانيّ كذا وكذا، فهو إقرار يلزم ". 47 - رابعاً: إذا أنكر من كتب أو استكتب سنداً رسميّاً ممضياً بإمضائه أو مختوماً بختمه الدّين الّذي يحتويه ذلك السّند مع اعترافه بخطّه وختمه، فلا يعتبر إنكاره، ويلزمه أداء ذلك الدّين دون حاجةٍ إلى إثباتٍ بوجهٍ آخر. أمّا إذا أنكر خطّ السّند الّذي أعطاه مرسوماً أيضاً وقال: إنّه ليس خطّي، فينظر: - فإن كان خطّه مشهوراً ومتعارفاً بين الجار وأهل البلد وثبت أنّه خطّه، فلا يعتبر إنكاره، ويعمل بذلك السّند بدون حاجةٍ لإثبات مضمونه. - أمّا إذا لم يكن خطّه مشهوراً ومتعارفاً فيستكتب، ويعرض خطّه على الخبراء، فإذا أفادوا أنّ الخطّين لشخصٍ واحدٍ، فيؤمر ذلك الشّخص بأداء الدّين المذكور، وإلاّ فلا. 48 - خامساً: إذا أعطى شخص لآخر سنداً رسميّاً يفيد أنّه مدين له بمبلغٍ من المال، ثمّ توفّي، فيلزم ورثته بإيفائه من التّركة إذا اعترفوا بكون السّند للمتوفّى، ولو أنكروا الدّين. أمّا إذا أنكروا السّند، فينظر: إن كان خطّ المتوفّى وختمه مشهوراً ومتعارفاً، وثبت أنّ الخطّ خطّه والختم ختمه، فيجب عليهم أداء الدّين من التّركة، ولا عبرة لإنكارهم، وإن كان خلاف ذلك فلا يعمل بالسّند لوجود شبهة التّزوير فيه. 49 - سادساً: إذا وجد الوارث خطّاً لمورّثه يفيد أنّ عليه ديناً قدره كذا وكذا لفلانٍ، فيجب على الوارث العمل بخطّ مورّثه ودفع الدّين إلى من هو مكتوب باسمه من التّركة.
اختلف الفقهاء في حكم توثيق الدّين بالكتابة على قولين: 50 - أحدهما: لجمهور الفقهاء، وهو أنّ كتابة الدّين مندوب إليها وليست واجبةً. إذ الأمر في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} للإرشاد لمن يخشى ضياع دينه بالنّسيان أو الإنكار، حيث لا يكون المدين موضع ثقةٍ كاملةٍ من دائنه، يدلّ على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وهو يفيد أنّ الكتابة غير مطلوبةٍ إذا توافرت الأمانة والثّقة بين المتعاملين، وقد درج النّاس من عهد الصّحابة إلى يومنا هذا على عدم كتابة الدّيون ما دامت الثّقة قائمةً بين المتداينين، ولم ينقل عن فقهائهم نكير مع اشتهار ذلك. 51 - والثّاني: لابن جريرٍ الطّبريّ وبعض السّلف: وهو أنّ كتابة الدّين واجبة لقوله تعالى:{فَاكْتُبُوهُ} إذ الأصل في الأمر إفادة الوجوب. وممّا يؤيّد دلالة هذا الأمر على الوجوب اهتمام الآية ببيان من له حقّ الإملاء، وصفة الكاتب، وحثّه على الاستجابة إذا طلب منه ذلك، والحثّ على كتابة القليل والكثير، ثمّ التّعبير عن عدم وجوب الكتابة في المبادلات النّاجزة بنفي الجناح، حيث إنّه يشعر بلوم من ترك الكتابة عند تعامله بالدّين. ب - توثيق الدّين بالشّهادة: 52 - دلّ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء...} إلى آخر الآية على مشروعيّة توثيق الدّين بالشّهادة وأنّها وثيقة واحتياط للدّائن، لأنّ استشهاد الشّهود أنفى للرّيب، وأبقى للحقّ، وأدعى إلى رفع التّنازع والاختلاف، وفي ذلك صلاح الدّين والدّنيا معاً. وبيّنت الآية أنّ نصاب الشّهادة على الدّين هو: إمّا رجلان، أو رجل وامرأتان ممّن يرتضى من العدول الثّقات، فإذا تحقّق ذلك كان وثيقةً معتبرةً وحجّةً شرعيّةً في إثبات الدّين، وبيّنةً قويّةً يعتمد عليها القاضي في الحكم به لطالبه.
اختلف الفقهاء في حكم توثيق الدّين بالشّهادة على قولين: 53 - أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: وهو أنّ الإشهاد على الدّين مندوب إليه وليس بواجبٍ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وقال إلكيا الهرّاسيّ: " ومعلوم أنّ هذا الأمن لا يقع إلاّ بحسب الظّنّ والتّوهّم لا على وجه الحقيقة، وذلك يدلّ على أنّ الشّهادة إنّما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحقّ الشّرع، فإنّها لو كانت لحقّ الشّرع لما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} ولا ثقة بأمن العباد، إنّما الاعتماد على ما يراه الشّرع مصلحةً، فالشّهادة متى شرعت في النّكاح لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضاً، فدلّ ذلك أنّ الشّهادة " في غير النّكاح " شرعت للطّمأنينة، ولأنّ اللّه تعالى جعل لتوثيق الدّيون طرقاً منها: الكتاب، ومنها الرّهن، ومنها الإشهاد، ولا خلاف بين علماء الأمصار أنّ الرّهن مشروع بطريق النّدب لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد ". 54 - والثّاني: لبعض السّلف: وهو أنّ الإشهاد على الدّين واجب لقوله تعالى في آية الدّين: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} الآية. ج - توثيق الدّين بالرّهن: 55 - المراد بالرّهن " المال الّذي يجعل وثيقةً بالدّين ليستوفي من ثمنه إن تعذّر استيفاؤه ممّن هو عليه.. ". وبهذه الوثيقة يصير المرتهن أحقّ بالرّهن من سائر الغرماء، فإذا كان على الرّاهن ديون أخرى لا تفي بها أمواله، وبيع الرّهن لسداد ما عليه، كان للمرتهن أن يستوفي دينه من ثمنه أوّلاً، فإذا بقي شيء فهو لسائر الغرماء.
56 - ذهب جماهير الفقهاء إلى أنّ توثيق الدّين بالرّهن غير واجبٍ، وأنّ الأمر به في الآية للإرشاد. قال ابن قدامة: " والرّهن غير واجبٍ، لا نعلم فيه مخالفاً، لأنّه وثيقة بالدّين، فلم يجب كالضّمان والكتابة، وقول اللّه تعالى: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} إرشاد لنا، لا إيجاب علينا، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، ولأنّه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبةٍ، فكذا بدلها ". د - توثيق الدّين بالكفالة: 57 - اختلف الفقهاء في حقيقة كفالة الدّين على أربعة أقوالٍ: أ - فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها " ضمّ ذمّة الكفيل إلى ذمّة المكفول في الالتزام بالدّين، فيثبت في ذمّتهما جميعًا، ولصاحب الحقّ مطالبة من شاء منهما ". وشغل الدّين الواحد ذمّتين على سبيل التّعلّق والاستيثاق، كتعلّق دين الرّهن به وبذمّة الرّاهن، وأنّه كفرض الكفاية، يتعلّق بالكلّ ويسقط بفعل البعض. وتعلّقه هذا لا يعني تعدّده،لأنّه في الحقيقة واحد. وما التّعدّد إلاّ بالنّسبة لمن تعلّق بهم فقط. وعلى هذا فلا زيادة في الدّين، لأنّ الاستيفاء لا يكون إلاّ من واحدٍ منهما. ب - وذهب المالكيّة إلى أنّها " ضمّ ذمّة الكفيل إلى ذمّة المكفول في الالتزام بالدّين " إلاّ أنّهم قالوا: ليس للمكفول له أن يطالب الكفيل بالدّين إلاّ إذا تعذّر عليه الاستيفاء من الأصيل، لأنّ الضّمان وثيقة، فلا يستوفى الحقّ منها إلاّ عند العجز عن استيفائه من المدين،كالرّهن. ج - وذهب الحنفيّة إلى أنّها ضمّ ذمّة الكفيل إلى ذمّة الأصيل في وجوب الأداء، لا في وجوب الدّين، لأنّ ثبوت الدّين في الذّمّة اعتبار شرعيّ لا يكون إلاّ بدليلٍ، ولا دليل على ثبوته في ذمّة الكفيل، لأنّ التّوثيق يحصل بالمشاركة في وجوب الأداء من غير حاجةٍ إلى إيجاب الدّين في الذّمّة، كالوكيل بالشّراء يطالب بالثّمن، والثّمن في ذمّة الموكّل وحده، وعلى هذا عرّفوها بأنّها " ضمّ ذمّة الكفيل إلى ذمّة الأصيل في المطالبة ". د - وذهب ابن أبي يعلى وابن شبرمة وأبو ثورٍ وأحمد في روايةٍ عنه إلى أنّ الدّين ينتقل بالكفالة إلى ذمّة الكفيل - كما في الحوالة - فلا يكون للدّائن أن يطالب الأصيل. وعلى أيّة حالٍ، فسواء أكانت كفالة الدّين معناها ضمّ ذمّة الكفيل إلى ذمّة المكفول في الالتزام بالدّين، أم في المطالبة فقط، أم انتقال الدّين من ذمّة المكفول إلى ذمّة الكفيل فإنّها تقتضي باتّفاق الفقهاء التزام الكفيل بأداء الدّين إلى الدّائن إذا تعذّر عليه استيفاؤه من الأصيل، وذلك هو معنى التّوثيق، وفائدته، وثمرته.
التّصرّف في الدّين إمّا أن يكون من الدّائن، وإمّا أن يكون من المدين.
ينحصر تصرّف الدّائن في دينه بتمليكه للمدين أو لغيره بإحدى طرائق التّمليك المشروعة، سواء بعوضٍ أم بغير عوضٍ. الحالة الأولى: تمليك الدّين للمدين: يختلف حكم تمليك الدّين للمدين بحسب حال الدّين ومدى استقرار ملك الدّائن عليه، وذلك لأنّ الدّيون نوعان: 58 - النّوع الأوّل: ما يكون الملك عليه مستقرّاً: كغرامة المتلف، وبدل القرض، وقيمة المغصوب، وعوض الخلع، وثمن المبيع، والأجرة بعد استيفاء المنفعة، والمهر بعد الدّخول، ونحو ذلك. وهذا النّوع من الدّيون لا خلاف بين الفقهاء في جواز تمليكه لمن هو عليه بعوضٍ أو بغير عوضٍ. غير أنّ جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة استثنوا من قاعدة جواز تمليك الدّين لمن عليه بعوضٍ بدل الصّرف ورأس مال السّلم، فلم يجيزوا التّصرّف في أيٍّ منهما قبل قبضه، لأنّ في ذلك تفويتاً لشرط الصّحّة، وهو القبض في بدلي الصّرف ورأس مال السّلم قبل الافتراق. كما اشترط الشّافعيّة والحنابلة لصحّة تمليك الدّين لمن عليه أن يخلو العقد من ربا النّسيئة، فلو باع الدّائن دينه من المدين بما لا يباع به نسيئةً كذهبٍ بفضّةٍ أو حنطةٍ بشعيرٍ ونحو ذلك من الأموال الرّبويّة، فلا يصحّ ذلك إلاّ إذا قبض الدّائن العوض قبل التّفرّق من المجلس، وذلك لحديث «ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء». فقد شرط صلى الله عليه وسلم القبض قبل التّفرّق. وعلى ذلك فإذا قبض الدّائن العوض في المجلس، فإنّه يصحّ بيع الدّين وتمليكه لانتفاء المانع، إذ يصدق على ما ذكر أنّه تقابض، لوجود القبض الحقيقيّ في العوض المدفوع لصاحب الدّين، والحكميّ فيما في ذمّة المدين، لأنّه كأنّه قبضه منه وردّه إليه. وكذلك اشترط جمع من الفقهاء انتفاء بيع الدّين بالدّين لصحّة تمليك الدّين لمن هو عليه، حيث نقل أحمد وابن المنذر وابن رشدٍ والسّبكيّ وغيرهم إجماع أهل العلم على أنّ بيع الدّين بالدّين غير جائزٍ. وعلى ذلك: أ - نصّ الشّافعيّة والحنابلة على عدم جواز صرف ما في الذّمّة. فلو كان لرجلٍ في ذمّة رجلٍ دنانير، والآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمّتيهما، فلا يصحّ ذلك. قال الشّافعيّ في " الأمّ ": " ومن كانت عليه دراهم لرجلٍ، وللرّجل عليه دنانير، فحلّت أو لم تحلّ، فتطارحاها صرفًا، فلا يجوز، لأنّ ذلك دين بدينٍ ". وخالف في ذلك الحنفيّة والمالكيّة وتقيّ الدّين السّبكيّ من الشّافعيّة وتقيّ الدّين ابن تيميّة من الحنابلة وقالوا: بجواز صرف ما في الذّمّة، لأنّ الذّمّة الحاضرة كالعين الحاضرة غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّينان قد حلاّ معاً، فأقاموا حلول الأجلين في ذلك مقام النّاجز بالنّاجز. ب - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وغيرهم، إلى أنّه لا يجوز جعل الدّين الّذي على المسلم إليه رأس مال سلمٍ، وذلك لأنّه يؤدّي إلى بيع الدّين بالدّين، وهو غير جائزٍ. وخالف في ذلك تقيّ الدّين بن تيميّة وابن القيّم وقالا: بجوازه لعدم تحقّق المنهيّ عنه - وهو بيع الكالئ بالكالئ، أي الدّين المؤخّر بالدّين المؤخّر - في هذه المسألة. ج - نصّ الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في وجهٍ على أنّ الدّائن إذا باع الدّين ممّن هو عليه بشيءٍ موصوفٍ في الذّمّة، فيشترط لصحّة ذلك أن يقبض الدّائن العوض قبل التّفرّق من المجلس، كي لا يترتّب على ذلك بيع الدّين بالدّين، وهو غير جائزٍ. أمّا إذا باع الدّين ممّن هو عليه بشيءٍ معيّنٍ، فلا يشترط في مذهب الحنفيّة قبض المشتري، لانتفاء بيع الدّين بالدّين. قال الكاسانيّ: " إنّ الدّين لا يخلو من أن يكون دراهم، أو دنانير، أو فلوساً، أو مكيلاً، أو موزوناً، أو قيمة المستهلك، فإن كان دراهم أو دنانير فاشترى به شيئاً بعينه جاز الشّراء، وقبض المشتري ليس بشرطٍ، لأنّه يكون افتراقاً عن عينٍ بدينٍ، وأنّه جائز فيما لا يتضمّن ربا النّساء، ولا يتضمّن هاهنا. وكذلك إن كان الدّين مكيلاً أو موزوناً أو قيمة المستهلك لما قلنا ". 59 - والنّوع الثّاني من الدّيون: ما لا يكون الملك عليه مستقرّاً: كالمسلم فيه والأجرة قبل استيفاء المنفعة أو مضيّ زمانها، والمهر قبل استيفاء المنفعة أو مضيّ زمانها والمهر قبل الدّخول ونحو ذلك، وهذا النّوع من الدّيون يجوز تمليكه ممّن هو عليه بغير عوضٍ، لأنّ ذلك يعتبر إسقاطًا للدّين عن المدين، ولا دليل على منعه. أمّا تمليكه بعوضٍ، فقد فرّق الفقهاء بين دين السّلم وبين غيره من الدّيون غير المستقرّة. وبيان ذلك فيما يلي: أ - دين السّلم: 60 - اختلف الفقهاء في صحّة بيع المسلم الدّين المسلم فيه للمدين، أو الاعتياض عنه على قولين: أحدهما: لجمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو أنّه لا يصحّ بيع المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمّته، لأنّه لا يؤمن من فسخ العقد بسبب انقطاع المسلم فيه وامتناع الاعتياض عنه، فكان كالمبيع قبل القبض، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيءٍ فلا يصرفه في غيره». قالوا: وهذا يقتضي ألاّ يبيع المسلم دين السّلم لا من صاحبه ولا من غيره. والثّاني: للمالكيّة وأحمد في روايةٍ عنه، وصحّحه تقيّ الدّين بن تيميّة وابن القيّم، وهو جواز بيع العرض المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمّته بثمن المثل، أو دونه، لا أكثر منه. واستدلّوا على جواز بيعه من المدين والاعتياض عنه إذا كان بسعر المثل أو دونه بعدم المانع الشّرعيّ، إذ الحديث الّذي استدلّ به المانعون «من أسلم في شيءٍ فلا يصرفه إلى غيره» ضعيف عند علماء الحديث، وحتّى لو صحّ، فإنّ معنى «فلا يصرفه إلى غيره» أن لا يصرفه إلى سلمٍ آخر، أو لا يبيعه بمعيّنٍ مؤجّلٍ، وذلك خارج عن محلّ النّزاع. قال ابن القيّم: " فثبت أنّه لا نصّ في التّحريم ولا إجماع ولا قياس، وأنّ النّصّ والقياس يقتضيان الإباحة ". أمّا عدم جواز الاعتياض عنه بأكثر من قيمته، فلأنّ دين السّلم مضمون على البائع، ولم ينتقل إلى ضمان المشتري، فلو باعه المشتري من المسلم إليه بزيادةٍ، فقد ربح ربّ السّلم فيما لم يضمن،وقد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه «نهى عن ربح ما لم يضمن». 61 - ب - الدّيون الّتي لم يستقرّ ملك الدّائن عليها لعدم قبض المدين الشّيء المقابل لها، كالأجرة قبل استيفاء المنفعة أو مضيّ زمانها، وكالمهر قبل الدّخول ونحو ذلك. وهذه الدّيون اختلف الفقهاء في جواز تمليكها ممّن هي عليه بعوضٍ على قولين: أحدهما للحنابلة: وهو أنّه لا يجوز بيعها ممّن هي عليه، لأنّ ملكه عليها غير تامٍّ. والثّاني للحنفيّة والشّافعيّة: وهو جواز بيعها ممّن هي عليه، كالدّيون الّتي استقرّ ملك الدّائن عليها، إذ لا فرق بينها. الحالة الثّانية: تمليك الدّيون لغير المدين: 62 - اختلف الفقهاء في حكم تمليك الدّين لغير من عليه على أربعة أقوالٍ: أحدها: رواية عن أحمد ووجه عند الشّافعيّة: وهو أنّه يجوز تمليك الدّين من غير من عليه الدّين بعوضٍ وبغير عوضٍ. والثّاني: للحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر: وهو أنّه لا يصحّ تمليك الدّين لغير من هو عليه، سواء أكان بعوضٍ أم بغير عوضٍ. كأن يقول شخص لآخر: وهبتك ما لي من دينٍ على فلانٍ، فيقبل. أو يقول له: اشتريت منك كذا بما لي من دينٍ على فلانٍ، فيقبل أو يقول له: استأجرت منك كذا بالدّين الثّابت لي في ذمّة فلانٍ، فيقبل. فهذا كلّه غير جائزٍ، لأنّ الواهب أو المشتري أو المستأجر يهب أو يبيع ما ليس في يده، ولا له من السّلطة شرعاً ما يمكّنه من قبضه منه، فكان بيعاً لشيءٍ لا يقدر على تسليمه، إذ ربّما منعه المدين أو جحده، وذلك غرر، فلا يجوز. وقد استثنى الحنفيّة من قاعدة عدم جواز تمليك الدّين لغير من هو عليه ثلاث حالاتٍ: الأولى: إذا وكّل الدّائن الشّخص الّذي ملّكه الدّائن في قبض ذلك الدّين من مدينه، فيصحّ ذلك، ويقبض الدّين من المدين باعتباره وكيلاً عن الدّائن، وبمجرّد القبض يصير قابضاً لنفسه، وتنتقل ملكيّة الدّين إليه. والثّانية: إذا أحال الدّائن الشّخص الّذي ملّكه الدّين على مدينه، فيصحّ ذلك، ويقبض الدّين من المدين باعتباره محالاً من الدّائن عليه، وبمجرّد القبض تنتقل ملكيّة الدّين إليه. والثّالثة: الوصيّة، فإنّها تصحّ بالدّين لغير من هو عليه، لأنّها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، فينتقل الملك فيه كما ينتقل بالإرث. والثّالث: للشّافعيّة في قولٍ - صحّحه كثير من أئمّتهم كالشّيرازيّ في المهذّب والنّوويّ في زوائد الرّوضة، واختاره السّبكيّ وأفتى به زكريّا الأنصاريّ وغيره - وهو أنّه يجوز بيع سائر الدّيون - عدا دين السّلم - لغير من عليه الدّين، كما يجوز بيعها للمدين ولا فرق، وذلك إذا كان الدّين حالّاً والمدين مقرّاً مليئاً أو عليه بيّنة لا كلفة في إقامتها. وذلك لانتفاء الغرر النّاشئ عن عدم قدرة الدّائن على تسليم الدّين إليه. وكما اشترط التّقابض في المجلس في بيع الدّين للمدين إذا كان بما لا يباع به نسيئةً - كالرّبويّات ببعضها - فإنّه يشترط كذلك في بيع الدّين لغير من هو عليه. والرّابع: للمالكيّة، وهو أنّه يجوز بيع الدّين لغير المدين بشروطٍ تباعد بينه وبين الغرر، وتنفي عنه سائر المحظورات الأخرى، وهذه الشّروط ثمانية: أولاً - أن يعجّل المشتري الثّمن،لأنّه إذا لم يعجّل في الحين فإنّه يكون من بيع الدّين بالدّين. ثانياً - أن يكون المدين حاضراً في البلد، ليعلم من فقرٍ أو غنىً، لأنّ عوض الدّين يختلف باختلاف حال المدين، والمبيع لا يصحّ أن يكون مجهولاً. ثالثاً - أن يكون المدين مقرّاً بالدّين، فإن كان منكراً له فلا يجوز بيع دينه ولو كان ثابتاً بالبيّنة حسماً للمنازعات. رابعاً - أن يباع بغير جنسه، أو بجنسه بشرط أن يكون مساوياً له. خامساً - ألاّ يكون ذهباً بفضّةٍ ولا عكسه، لاشتراط التّقابض في صحّة بيعها. سادساً - ألاّ يكون بين المشتري والمدين عداوة. سابعاً - أن يكون الدّين ممّا يجوز بيعه قبل قبضه، احترازاً ممّا لو كان طعاماً، إذ لا يجوز بيعه قبل قبضه. ثامناً - ألاّ يقصد المشتري إعنات المدين والإضرار به.
63 - ينحصر تصرّف المدين في الدّين الثّابت في ذمّته في أمرين: الحوالة، والسّفتجة. الحالة الأولى: الحوالة. (ر: حوالة). الحالة الثّانية: السّفتجة. (ر: سفتجة).
64 - يفرّق الفقهاء في أحكام الدّين من النّقود عند طروء التّغيّرات على النّقد بين ما إذا كان الدّين الثّابت في الذّمّة نقداً بالخلقة " أي من الذّهب أو الفضّة " وما إذا كان ثابتاً بالاصطلاح " بأن كان من غير النّقدين وجرى الاصطلاح على استعماله استعمال النّقدين " كالفلوس الرّائجة ونحوها من العملات. وبيان ذلك فيما يلي:
65 - إنّ الدّين الثّابت في الذّمّة إذا كان عملةً ذهبيّةً أو فضّيّةً محدّدةً مسمّاةً، فغلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم المدين أن يؤدّي غيرها، لأنّها نقد بالخلقة، وهذا التّغيّر في قيمتها لا تأثير له على الدّين ألبتّة. وقد جاء في / م 805 / من مرشد الحيران. " وإن استقرض شيئاً من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات من الذّهب والفضّة، فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه ردّ مثلها، ولا عبرة برخصها وغلوّها ". وحتّى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة سعرها أو نقصته، فلا يلزم المدين إلاّ ما جرى عليه العقد. يقول ابن عابدين: " ثمّ اعلم أنّه تعدّد في زماننا ورود الأمر السّلطانيّ بتغيير سعر بعضٍ من النّقود الرّائجة بالنّقص، واختلف الإفتاء فيه. والّذي استقرّ عليه الحال الآن دفع النّوع الّذي وقع عليه العقد لو كان معيّناً، كما إذا اشترى سلعةً بمائة ريالٍ إفرنجيٍّ أو مائة ذهبٍ عتيقٍ ". ولو أبطلت السّلطة المصدرة لهذه العملة التّعامل بها، فإنّه لا يلزم المدين سواها وفاءً بالعقد، إذ هي المعقود عليها، وهي الثّابتة في الذّمّة دون غيرها. وعلى ذلك نصّ الشّافعيّ في " الأمّ " والمالكيّة في المشهور عندهم. قال الشّافعيّ: " ومن سلّف فلوساً أو دراهم أو باع بها، ثمّ أبطلها السّلطان، فليس له إلاّ مثل فلوسه أو دراهمه الّتي سلّف أو باع بها ". وقال بعض المالكيّة: إذا أبطلت هذه العملة واستبدل بها غيرها، فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذّهب، ويأخذ صاحب الدّين القيمة ذهباً. أمّا إذا عدمت تلك العملة أو انقطعت أو فقدت في بلد المتداينين، فتجب عندئذٍ قيمتها ممّا تجدّد وتوفّر التّعامل به من العملات. ولو قلّت أو عزّ وجودها في أيدي النّاس، فإنّه لا يجب غيرها، لإمكان تحصيلها مع العزّة، بخلاف انقطاعها وانعدامها وفقدها. قال الهيثميّ: " ولو باع بنقدٍ دراهم أو دنانير، وعيّن شيئاً موجوداً، اتّبع وإن عزّ ". وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنّ الحنابلة قيّدوا القول بإلزام الدّائن بقبول مثل النّقد الّذي ثبت في ذمّة المدين، وإلزام المدين بأدائه إذا كان متوفّراً - في حالتي الغلاء والرّخص - بأن يكون التّعامل بهذا النّقد مسموحًا به من قبل الدّولة. أمّا إذا منعت الدّولة النّاس من التّعامل به، فلا يجبر الدّائن على قبوله، ويكون له القيمة وقت ثبوت الدّين من غير جنسه من النّقود إن ترتّب على أخذ القيمة من جنسه ربا الفضل، سواء اتّفق النّاس على ترك التّعامل بهذا النّقد أم لم يتّفقوا، أمّا إذا لم يترتّب على أداء القيمة من جنسه ربا الفضل، فلا مانع من أن يكون الوفاء بقيمته من جنسه.
إذا كان الدّين الثّابت في الذّمّة نقداً بالاصطلاح لا بالخلقة، كسائر العملات الأخرى غير الذّهبيّة والفضّيّة، فطرأ عليه تغيّر عند حلوله، فعندئذٍ يفرّق بين خمس حالاتٍ: الحالة الأولى: الكساد العامّ للنّقد: 66 - وذلك بأن توقف الجهة المصدرة للنّقد التّعامل به، فتترك المعاملة به في جميع البلاد، وهو ما يسمّيه الفقهاء ب " كساد النّقد ". ففي هذه الحالة: لو اشترى شخص سلعةً بنقدٍ محدّدٍ معلومٍ، ثمّ كسد ذلك النّقد قبل الوفاء، أو استدان نقداً معلوماً ثمّ كسد قبل الأداء، أو وجب في ذمّته المهر المؤجّل نقداً محدّداً، ثمّ كسد قبل حلوله. فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوالٍ: القول الأوّل: لأبي حنيفة، وهو أنّ النّقد الّذي كسد إذا كان ثمناً في بيعٍ، فإنّه يفسد العقد، ويجب الفسخ ما دام ممكناً، لأنّه بالكساد خرج عن كونه ثمناً، حيث إنّ ثمنيّته ثبتت بالاصطلاح، فإذا ترك النّاس التّعامل به، فإنّها تزول عنه صفة الثّمنيّة، فيبقى المبيع بلا ثمنٍ، فيفسد البيع. أمّا إذا كان ديناً في قرضٍ أو مهراً مؤجّلاً، فيجب ردّ مثله ولو كان كاسداً، لأنّه هو الثّابت في الذّمّة لا غيره. حيث " إنّ القرض إعارة، وموجبها ردّ العين معنىً، وذلك يتحقّق بردّ مثله ولو كان كاسداً - لأنّ الثّمنيّة زيادة فيه، حيث إنّ صحّة القرض لا تعتمد الثّمنيّة، بل تعتمد المثليّة، وبالكساد لم يخرج من أن يكون مثلاً، ولهذا صحّ استقراضه بعد الكساد، وصحّ استقراض ما ليس بثمنٍ كالجوز والبيض والمكيل والموزون وإن لم يكن ثمناً، ولولا أنّه إعارة في المعنى لما صحّ، لأنّه يكون مبادلة الجنس بالجنس نسيئةً وأنّه حرام، فصار المردود عين المقبوض حكماً، فلا يشترط فيه الرّواج كردّ العين المغصوبة، والقرض كالغصب إذ هو مضمون بمثله ". والقول الثّاني: لأبي يوسف والحنابلة على الرّاجح عندهم والمالكيّة في غير المشهور، وهو أنّه لا يجزئ ردّ المثل بعدما كسد، ويجب على المدين ردّ قيمة النّقد الّذي وقع عليه العقد - يوم التّعامل - من نقدٍ آخر. وبهذا أخذت المادّة: " 805 " من مرشد الحيران حيث جاء فيها: " إذا استقرض مقداراً معيّناً من الفلوس الرّائجة والنّقود غالبة الغشّ، فكسدت وبطل التّعامل بها فعليه ردّ قيمتها يوم قبضها لا يوم ردّها ". واستدلّوا على ذلك: أوّلاً: بأنّ إيقاف التّعامل بها من قبل الجهة المصدرة لها منع لنفاقها وإبطال لماليّتها، إذ هي أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، فصار ذلك إتلافاً لها، فيجب بدلها وهو القيمة بناءً على قاعدة الجوابر. ثانياً: ولأنّ الدّائن قد دفع شيئاً منتفعاً به لأخذ عوضٍ منتفعٍ به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. قالوا: وإنّما اعتبرت القيمة يوم التّعامل، لأنّه وقت الوجوب في الذّمّة. والقول الثّالث: لمحمّد بن الحسن الشّيبانيّ وبعض الحنابلة، وهو أنّه يجب على المدين ردّ قيمة النّقد الّذي وقع به التّعامل من النّقد الآخر وقت الكساد، أي في آخر نفاقها، وهو آخر ما تعامل النّاس بها، لأنّه وقت الانتقال إلى القيمة، إذ كان يلزمه ردّ مثلها ما دامت نافقةً، فإذا كسدت انتقل إلى قيمتها حينئذٍ. والقول الرّابع: للشّافعيّة والمالكيّة على المشهور عندهم، وهو أنّ النّقد إذا كسد بعد ثبوته في الذّمّة وقبل أدائه، فليس للدّائن سواه. ويعتبر هذا الكساد كجائحةٍ نزلت بالدّائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدّين قرضاً أو ثمن مبيعٍ أو غير ذلك. الحالة الثّانية: الكساد المحلّيّ للنّقد: 67 - وذلك بأن يبطل التّعامل بالنّقد في بعض البلاد لا في جميعها. ومثله في عصرنا الحاضر العملات الّتي تصدرها بعض الدّول وتمنع تداولها في خارج أراضيها. ففي هذه الحالة: إذا اشترى شخص بنقدٍ نافقٍ ثمّ كسد في البلد الّذي وقع فيه البيع قبل الأداء، فإنّ البيع لا يفسد، ويكون البائع بالخيار بين أن يطالبه بالنّقد الّذي وقع به البيع، وبين أخذ قيمة ذلك النّقد من عملةٍ رائجةٍ. وهذا هو القول المعتمد في مذهب الحنفيّة. وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنّه إذا كسد النّقد في بلدةٍ واحدةٍ، فيجري عليه فيها حكم الكساد العامّ في جميع البلاد اعتباراً لاصطلاح أهل تلك البلدة. الحالة الثّالثة: انقطاع النّقد: 68 - وذلك بأن يفقد النّقد من أيدي النّاس، ولا يتوفّر في الأسواق لمن يريده. ففي هذه الحالة: لو اشترى شخص سلعةً بنقدٍ معيّنٍ، ثمّ انقطع قبل أن يؤدّي الثّمن فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوالٍ: القول الأوّل: للحنابلة ومحمّد بن الحسن الشّيبانيّ، وهو المفتى به في مذهب الحنفيّة، وهو أنّ على المشتري أداء ما يساويه في القيمة في آخر يومٍ قبل الانقطاع، لتعذّر تسليم مثل النّقد بعد انقطاعه، فيصار إلى بدله وهو القيمة. ومثل ذلك يقال في دين القرض وغيره. وإنّما اعتبرت القيمة قبيل الانقطاع، لأنّه الوقت الّذي ينتقل الوجوب فيه من المثل إلى القيمة. والقول الثّاني: لأبي يوسف، وهو أنّه يجب على المدين أداء ما يساويه في القيمة يوم التّعامل، لأنّه وقت الوجوب في الذّمّة. والقول الثّالث: لأبي حنيفة، وهو أنّ الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع. والقول الرّابع: للمالكيّة والشّافعيّة، وهو أنّه إن أمكن الحصول على ذلك النّقد مع فقده وانقطاعه، فيجب الوفاء به، وإلاّ فتجب قيمته، سواء أكان دين قرضٍ أو ثمن مبيعٍ أو غير ذلك. لكن أصحاب هذا القول اختلفوا في الوقت الّذي تجب فيه القيمة عندما يصار إليها: فقال الشّافعيّة: تجب في وقت المطالبة. - وقال المالكيّة في المشهور عندهم: تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق - وهو حلول الأجل - والعدم الّذي هو الانقطاع. وذهب بعض المالكيّة إلى أنّ القيمة إنّما تقدّر وقت الحكم. الحالة الرّابعة: غلاء النّقد ورخصه: 69 - وذلك بأن تزيد قيمة النّقد أو تنقص بالنّسبة إلى الذّهب والفضّة، اللّذين يعتبران المقياس الّذي تقدّر بالنّظر إليه أثمان الأشياء وقيمها، ويعدّان ثمناً. وهذا هو مراد الفقهاء ب " الغلاء " " والرّخص " في هذا المقام. ففي هذه الحالة: إذا تغيّرت قيمة النّقد غلاءً أو رخصاً بعدما ثبت في ذمّة المدين بدلاً في قرضٍ أو دين مهرٍ أو ثمن مبيعٍ أو غير ذلك وقبل أن يؤدّيه، فقد اختلف الفقهاء في ما يلزم المدين أداؤه. على ثلاثة أقوالٍ: القول الأوّل: لأبي حنيفة والشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة على المشهور عندهم، وهو أنّ الواجب على المدين أداؤه هو نفس النّقد المحدّد في العقد والثّابت ديناً في الذّمّة، دون زيادةٍ أو نقصانٍ، وليس للدّائن سواه. وقد كان القاضي أبو يوسف يذهب إلى هذا الرّأي أوّلاً ثمّ رجع عنه. والقول الثّاني: لأبي يوسف - وعليه الفتوى عند الحنفيّة - وهو أنّه يجب على المدين أن يؤدّي قيمة النّقد الّذي طرأ عليه الغلاء أو الرّخص يوم ثبوته في الذّمّة من نقدٍ رائجٍ. ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض. والقول الثّالث: وجه عند المالكيّة، وهو أنّ التّغيّر إذا كان فاحشاً، فيجب أداء قيمة النّقد الّذي طرأ عليه الغلاء أو الرّخص. أمّا إذا لم يكن فاحشاً فالمثل. قال الرّهونيّ - معلّقاً على قول المالكيّة المشهور بلزوم المثل ولو تغيّر النّقد بزيادةٍ أو نقصٍ -: " قلت: وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدّاً، حتّى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعةٍ فيه، لوجود العلّة الّتي علّل بها المخالف في الكساد.
إذا ثبت الدّين في ذمّة المدين فإنّها تبقى مشغولةً بالدّين، ولا تبرأ إلاّ بحصول أحد أسباب انقضاء الدّين التّالية: 70 - إذا أدّى المدين أو نائبه أو كفيله أو غيرهم الدّين إلى الدّائن أو نائبه الّذي له ولاية قبض ديونه، فإنّ ذمّة المدين تبرأ بالأداء، ويسقط عنه الدّين. أمّا إذا دفع الدّين إلى من لا ولاية له على قبض ديون الدّائن، فلا ينقضي الدّين، ولا تبرأ ذمّة المدين. (ر: أداء). وولاية قبض الدّيون بطريق النّيابة تثبت بأمرين: إمّا بتولية الدّائن، وإمّا بتولية الشّارع: - أمّا الّتي تثبت بتولية الدّائن: فهي ولاية الوكيل بقبض الدّين، لأنّ من ملك التّصرّف في شيءٍ أصالةً ملك التّوكيل فيه، ونفس القبض والاستيفاء ممّا يقبل النّيابة، فكان قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكّل ولا فرق.. ولا بدّ في ذلك أن يكون كلّ من الوكيل والموكّل أهلاً للقبض. (ر: قبض). - وأمّا الّتي تثبت بتولية الشّارع: فهي ولاية من يلي مال المحجور ويتولّى قبض حقوقه. وهذه الولاية ليست بتولية الدّائن،لانتفاء أهليّته، وإنّما هي بتولية الشّارع. (ر: ولاية). ويشترط لنفاذ وفاء الدّين والبراءة منه أن يكون الدّافع مالكاً لما دفعه، فإن استحقّ بالبيّنة وأخذه صاحبه فللدّائن الرّجوع بدينه على غريمه.
71 - وذلك كما إذا كان لزيدٍ في ذمّة بكرٍ مائة دينارٍ ثمن مبيعٍ أو بدل قرضٍ أو غير ذلك فأبرأه من الدّين كلّه، فينتهي بذلك التزام المدين لفراغ ذمّته بالإبراء، وينقضي الدّين. كما تبرأ ذمّة الكفيل بالدّين تبعاً لبراءة ذمّة الأصيل إذا كان الدّين مضموناً. ولو أبرأه من بعض الدّين لم يبق له إلاّ مطالبته بالباقي. والإبراء يتمّ بإيجابٍ من الدّائن، ولا يحتاج إلى قبولٍ من المدين، غير أنّه يرتدّ بردّه، لأنّ الإبراء عن الدّين إسقاط من وجهٍ وتمليك من وجهٍ آخر.. فمن جهة كونه إسقاطاً لا يتوقّف على القبول، وباعتباره تمليكاً يرتدّ بالرّدّ، لأنّ المرء لا يجبر على إدخال شيءٍ في ملكه بغير رضاه. إلاّ في الإرث. (ر: إبراء).
72 - وهي إسقاط دينٍ مطلوبٍ لشخصٍ من غريمه في مقابلة دينٍ مطلوبٍ من ذلك الشّخص لغريمه، وذلك بأن تشغل ذمّة الدّائن بمثل ما له على المدين في الجنس والصّفة ووقت الأداء، فعندئذٍ تقع المقاصّة ويسقط الدّينان إذا كانا متساويين في المقدار، فإن تفاوتا في القدر سقط من الأكثر بقدر الأقلّ وبقيت الزّيادة، فتكون المقاصّة في القدر المشترك، ويبقى أحدهما مدينًا للآخر بما زاد. (ر: مقاصّة).
73 - وذلك كما إذا كان زيد مديناً لأخيه الشّقيق بكرٍ بمبلغ ألف دينارٍ مثلاً، ثمّ مات بكر الدّائن، وليس له وارث إلاّ أخوه زيد، فيرث زيد من ضمن ما يرثه عن بكرٍ هذا الدّين، وبذلك يكون زيد مدينًا ودائنًا لحلوله محلّ الدّائن المورث، فإذا طالب بالدّين، فهو إنّما يطالب نفسه ليأخذه لنفسه، وذلك لاتّحاد الذّمّة، فيسقط الدّين وينقضي لعدم الفائدة في المطالبة. (ر: إرث).
74 - لا يعتبر التّقادم من أسباب انقضاء الدّين شرعاً، لأنّ الحقّ ثابت لاصق بذمّة من عليه الدّين لمن هو له، لا يسقطه تقادم الزّمن مهما طال. ولكن تقادم الزّمن يؤثّر في منع سماع الدّعوى إذا كان المدّعى عليه منكراً، والمدّعي لا عذر له في ترك المطالبة، على ما هو مبيّن في موضعه بياناً مفصّلاً. (ر: تقادم).
75 - وذلك كما إذا فسخ عقد المعاوضة الوارد على الأعيان الماليّة بخيارٍ من الخيارات، أو بسببٍ من الأسباب الموجبة لفسخه، فإنّه ينقضي الدّين الّذي كان مترتّباً عليه، وتبرأ ذمّة المدين من البدل الّذي وجب عليه بالعقد. ومن أمثلة ذلك هلاك العين المنتفع بها، وفوات المنفعة المقصودة منها في إجارة الأعيان، حيث تسقط الأجرة عن المدّة المتبقّية، وتبرأ ذمّة المستأجر منها، وإن كان قد عجّل شيئًا منها، فله استرداد ما عجّله زائداً على أجرة المدّة السّابقة على هلاك العين. (ر: فسخ، إجارة، بيع، خيار).
76 - وذلك باستبدال دينٍ جديدٍ بالدّين الأصليّ، حيث نصّ الفقهاء على جواز فسخ عقد المداينة الأولى وتجديدها في عقدٍ آخر بتراضي المتداينين، كما إذا كان زيد مدينًا لبكرٍ بمبلغ عشرين ديناراً أجرة منزلٍ مملوكٍ لبكرٍ استأجره زيد منه، فيتّفق معه على أن يبقى ذلك الدّين بذمّته على سبيل القرض. ولا يخفى أنّه إذا فسخ عقد المداينة الأولى وصار تجديده بعقدٍ آخر، سقط الدّين الواجب بالعقد الأوّل، وترتّب على المدين دين جديد بالعقد الثّاني. ومن آثار انقضاء الدّين وسقوطه في هذه الحالة أنّه إذا كان الدّين الأوّل مكفولاً، وفسخ عقده، وصار تجديده بعقدٍ آخر، بطلت الكفالة وبرئ الكفيل، فلا يطالب بالدّين الحاصل بالعقد الجديد إلاّ إذا جدّدت الكفالة.
77 - وذلك أنّ المحال إذا قبل الحوالة ورضي المحال عليه بها برئ المحيل وكفيله - إن كان له كفيل - من الدّين ومن المطالبة معاً، لانقضاء الدّين بالحوالة، ويثبت للمحال حقّ مطالبة المحال عليه، غير أنّ براءة المحيل وكفيله المشار إليها مقيّدة بسلامة حقّ المحال لدى المحال عليه عند الحنفيّة. (ر: حوالة).
78 - وذلك عند الحنفيّة الذّاهبين إلى سقوط الدّين في أحكام الدّنيا عن المدين إذا مات مفلسًا، ولم يكن هناك كفيل بالدّين، أو رهن قبل الموت. قال ابن عابدين: " إنّ الدّين يسقط عن الميّت المفلس، إلاّ إذا كان به كفيل حال حياته أو رهن ". ومن هنا لم تصحّ عندهم كفالة دين ميّتٍ مفلسٍ بعد وفاته. وخالفهم في ذلك سائر الفقهاء للأحاديث الدّالّة على بقاء الدّين عليه بعد موته. (ر: إفلاس، كفالة، تركة).
|